..
من صور
ترسيخ العقائد السليمة ...
الشيخ
محمد المدني ..
ومن
الكنوز التي نَفخر اليومَ بتقديمها للقراء الكِرام هذه الرسالة القديمة التي كَتَبها
سيدي محمد المدني رضي الله عنه سنة 1941 ومَوضوعُها القَضاء والقَدَر والفُروق الدقيقة
بين الأمر الإلهي والرضا بما يقدره الله تعالى. وفيها إجابات شافية عن هذه المسألة
العَقَديَّة الجَليلة. يقول سيدي الشيخ محمد المدني:
1. أمَّا
الإرادَةُ فَهي صِفَةٌ من صِفات الحقِّ يَتَأتَّى بها تَخصيص كلِّ مُمكن لبعض ما يَجوز
عليه. وهي تَتَعَلَّق بجميع المُمْكِنات مَوجودَةً كانت أو مَعدومَةً، خَيرًا أو شَرًّا،
إيمانًا أو كُفرًا، طاعَةً أو عِصيانًا، فكلُّ مُمْكِن إنَّما بإرادته تعالى. وهَذا
هو ما اتَّفَقَ عليه أهلُ السنة في مَشارق الأرض ومَغاربها. وقال قائلهم:
2. وكل
ما أرادَ فَهوَ كائنٌ وإن نَهى عَنه وأخْطَأَ المائِنُ
3. ولَهم
على ذلك أدلَّةٌ نَقليَّةٌ وعَقليَّة. أما النقليَّة فَكثيرة، منها قَولُهُ تَعالى:
"ولَو شاءَ ربك ما فَعلوه") سورة الأنعام، 112( و قوله: "ولَو شئنا
لآتينا كل نفس هُداها" (سورة السجدة، 13(. وقَولُه تعالى: "فَمَن يُرد لَه
أن يَهديَه يَشرَحْ صَدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حَرِجًا") سورة
الأنعام، (125)
4. وأمَّا
العَقليَّة فَلَو فَرَضْنا أنَّ الشَرَّ يَقع بغير إرادة الله، بَل بإرادة العَبد لَلَزِمَ
للعَبْد إرادَةٌ نافِذَةٌ، تَسبق إرادَةَ الله، لأنَّنا نُشاهد أنَّ الطاعَةَ أقلَّ
من العِصيان، والكفرانَّ أكثرَ من الإيمان، كيف وقَد خُلقَ الإنسانُ ضَعيفًا؟ والله
تَعالى هو القاهر فوقَ عِباده، ويَلزَمُ بَعدَ ذلكَ أن يَكونَ لله شريكٌ في مُلْكِهِ
تَتَعَلَّق إرادَتُه بالقِسم الأعْظَم في هذا الوجود وكيفَ وهو لا شريكَ لَه يَفعل
في مُلكِهِ ما يَشاء ولا يُسأَل عَمَّا يَفعل. فإذا تَحَقَّقَ أنَّ إرادَةً تَسبق إرادَتَه
وأنَّ لا شريكَ لَه عقلاً ونَقلاً تَحَقَّقَ أنَّ إرادَتَه تَتَعَلَّق بكلِّ ممكنٍ
خيرًا أو شرًّا، وهو الذي جاء به التنزيل الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بَين يَديْهِ ولا
مِن خَلفه كما تَقَدَّمَ.
5. هذا
وقد ضَلَّ قَومٌ، فَأنكروا إرادَةَ اللهِ الشَرَّ وقالوا: لا تَتَعَلَّق إرادَتُهُ
إلاَّ بالخَير، فَكانَ عِندَهم الإرادَةُ والأمْرُ مُتَرادِفَيْنِ عَلى مَعنًى واحدٍ،
أتاهم ذلكَ تعلقُهم بالله وتَنزيهُهُ سبحانَه عن الشَرِّ، ولكنَّه أوقَعَهم هذا التنزيهُ
في ظلمٍ عَظيمٍ وشَرٍّ مُستَطير وهو إسنادُهُم لأنفسهم إرادَةَ الشَرِّ، فَكانوا شركاءَ
الله. وقد يأتي الخيرُ بالشَرِّ.
6. فإذا
علمتَ أن الكلَّ بإرادة الله حتى الفتَنَ والكفرَ، فاعلَمْ أنَّ لَه في ذلك حكمةً تَحوم
حولها العقول، وتَنثَني دونَ لِحاقِها جيادُ مَدارك الفُحول، فَسَلِّمْ تَسْلَم، وإلا
وَقَعتَ في حَيرَةٍ عَظيمة وقع فيها مثل الراوندي الزنديق القائل:
كَم
من عالِم عالِم أعْيَتْ مَذاهِبُهُ وجاهلٍ جاهلٍ تَلقاه مَرزوقًا
هذا
الذي تَركَ الأوهامَ حائرَةً وَصَيَّر العالِمَ النحريرَ زنديقًا
7. فَرَدَّ
عَليه بعضُ أهل الإيمان الكامل والرِّضى والتَسليم فقال :
كَم
مِن أريبٍ فَهِمٍ قَلبُهُ **** مُستَكمَل العَقل مقلٍّ عَديم
ومن
جَهول مكثر مالُه **** ذلك تقدير العَزيز العليم
فَما
أوسعها روضةً فَسيحَةً وعَقيدَةً صَحيحَةً: رضًى بما أرادَ الله وتسليمٍ بما قَدَّرَه
وقَضاه، وحِكَمٍ تَعجز عَن دَرْكِها العُقول ولَمَّا تُعرِبُ عَن دَقائِقِها الأفواه.
8. ثم
أقول: إذا عَلمتَ أنَّ إرادَةَ الله تَتَعَلَّق بكلٍّ مُمْكِنٍ، طاعَةٍ وعِصيانٍ، وكفرٍ
وإيمانٍ، وإنَّها تُخَصِّصُ كلَّ مُمْكِنٍ لبعض ما يجوز عليه، عَلِمتَ الفَرقَ بَينَها
وبَيْنَ الأمر الإلهي الذي هو طلبُ الطَّاعَة من عباده في الفعل و التركِ، فإنَّ طَلَبَه
لا يَكون إلا في الخَير، واللهُ لا يَأمر بالفَحْشاء، قال المَقَرِّي في إضاءَة الدُّجِنَّة
: وَأمرُهُ يُغَايِرُ الإِرَادَه, إذ عَمَّ أمرٌ طَاعَةٍ عِبَادَه..
9. وأمَّا
الأمْرُ فَهو طَلَبُ اللهِ تَعالَى طاعَةَ عَبيدِه لَه وهو لا يَكون في فعل الشرِّ
أبدًا. لِأنَّ اللهَ لا يَأمُرُ بالفَحشاء، وأدلَّة الكتاب والسنَّة كَثيرَة في طَلَب
اللهِ الطَّاعة من عِبادِهِ منها قوله تعالى: "وإذا أردنا أن نُهلكَ قَريَةً أمَرنا
مُتْرفيها ففسقوا فيها فدمرناها تدميرا" )سورة الإسراء، 16( والمَعنى - والله
أعلم- إذا أردنا إهلاكَ قَريَةٍ أمَرنَا مُتْرَفيها أيْ: رُؤسَاءَها بالطَّاعَة، فَخَرجوا
عمَّا أمَرناهم به ونَهَيْناهُم عَنه فَدَمَّرناها تَدميرًا. ومنها قولُه تَعالى:
"يا أيُّها الناس اتقوا ربَّكم".)سورة الحج،1، سورة النساء الآية 1 (
10.
وهناك قومٌ خَرَجوا عَن الأمْرِ وقالوا: نَحن مُجبَرون تَحتَ قُدرَةِ الله وإرادَتِه،
لا فِعلَ لَنا فَعَطَّلوا الأوامِرَ والنَّواهي وأبْطَلوا حجَّةَ الله على خَلقِهِ
ولِله الحُجَّة البالِغَة بِالأمْرِ والنَّهْيِ وإنْزال الكُتُبِ وإرْسال الرُّسُل.
11.
ولا بُدَّ أن يَتَمَسَّكَ العَبدُ بِطَرَفَيْ الأمْر والإرادَة، فَيَتَلَقَّى الأمْرَ
الإلهيَّ الذي يَقتَضي نسبَةَ الأفعال للعَبْد نِسبَةً كَسْبيَّة، لا خَلْقيَّةً، فَإنَّ
الشَّيءَ يُسنَد إلى سَببِهِ إسنادًا مجازيا من ذلك قوله تعالى :"رَبي إنَّهن
أضلَلن كَثيرًا من الناس" )سورة إبراهيم، 36 (فَقَد أسند الإضلال إلى الأصنام
وهي الأجساد الجامدة والكلُّ يَتَحَقَّق أنَّها لا تَهدي ولا تُضِلُّ ولكنها كانت سَبَبًا
في الضَّلال.
12.
ويَتَحَقَّق أن الإرادة محيطَة بكل ممكنٍ مُتَخَصِّصٍ بالهِدايَة أو الضَّلال، وهو
تَعالى يَهدي مَن يَشاء ويُضِلُّ مَن يَشاء، لا يُسْأَل عَمَّا يَفعل.
13.
ويَتَحَقَّق الإنسان أنَّه مُختارٌ ظاهرًا مَسلوبَ الاختيار باطنًا، ورَبُّكَ يَخلق
ما يَشاء، ويَختار لَهم الخيرة.
14.
واعْلَم أنَّ هَذا المَوقفَ، مَوقِفَ العَبْد بين الأمْر والإرادَة وتَمَسُّكَه بهما
مَسلَكٌ رَقيق يَحتاج من الله إلى التوفيق. إذِ العَبد يكون في باطنِهِ ناظِرًا بعين
الحقيقة وأنَّ كلَّ شَيءٍ بِقضائِهِ وقَدَرِهِ وإحاطة إرادته، وفي ظاهره ناظرًا بعين
الشريعة فيجتنبَ النواهي و يَمْتَثِلَ الأوامرَ، يَعمل بقوله تعالى " و ما آتاكم
الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" (سورة الحشر،7 ( .
15.
فَحاصِلٌ أنَّ مَن تَعَلَّق بالإرادَة فَقَط فَقد ضلَّ، ومَن تَعَلَّقَ بالأمر فَقَط
فَقَد زلَّ، ومَن تَمَسَّكَ بهما فقد هُدِيَ إلى صِراطٍ مُستَقيمٍ.
16.
وأمَّا الرضا والمَحَبَّة فقد اختلف فيهما العُلَماء. فَمنهم مَن قالَ إنَّ مَعناهُما
إرادَة الله إثابَةَ عِبادِهِ وإكرامَهم بها. وهما عندَ هذا الفريق صفتا ذات قديمتان
بمعنى الإرادة.
17.
ومنهم من قال إنَّ رِضى الله ومَحَبَّته لِعباده هُما نَفس إثابتهِ وإكرامِه إيَّاهم،
فهما عنده من صفات الأفعال الحادثة، فعلى القول الأول تترادف الإرادة والرِّضى والمَحَبَّة
على معنًى واحد كلها قدسية. وعَلى القَول الثاني جَرى صاحب الجوهرة الذي يقول:
وقُدرَة
وإرادة وغايَرَت أمرًا عِلمًا والرِّضى كما ثَبَت.
وجَرى
عليه أيضًا صاحب إضاءة الدجنَّة الذي يقول :
مثله
الرضى فليس يرضى كُفران أصحاب القلوب المَرضى
18.
ثمَّ أقول: وبِما تَقَدَّم تَعلَمِ الفَرقَ بَينَ الأمر والرِّضى. وحاصلُه أنَّ الأمرَ
هو طَلب الله العبادة من عباده بقوله : "يا أيها الناس اتقوا ربكم") سورة
الحج،1 ) وغَيرها من الآيات، والرضى الإثابة على تلكَ الطاعَة.
19.
نَسأله تعالى أن يغفرَ وزرَنا ويُثبِتَ أجْرَنا بِحُرمَة مَولانا رسول الله صلى الله
عليه وسَلَّم.
نقله
العَبد الذليل خادم إخوانه المُقَدَّم مُحمد بن علي بن عبد الله الشريفي الفراغ منه
بتاريخ يوم الجمعة في 26 شعبان 1362 (1941)
المدني
طريقَةً، غُفرَ لَه ولإخوانه والمسلمين.
تحقيق
وتقديم ن. المَدني، ا بالتعاون مع سيدي الحاج السماتي وسيدي عمر الجلالي، الزاوية المدنية
أوت-أكتوبر 2014.