بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله، الحمدُ لله الذي زكَّى النُّفوسَ وطهَّرَها بالفرائِضِ والواجِبات، وحفِظَها من الخُبث والخبائِثِ بتحريم المُحرَّمات، وتركِ السيئات، وأمدَّ القلوبَ بحياة الإيمان بما أنزلَ مِن الآيات البيِّنات، وبما سنَّ رسولُنا -صلى الله عليه وسلم- من الهُدى وأبلَغ الكلمات.
أيها المُسلمون: الحجُّ إلى بيتِ الله الحرام كُتِب على المُسلم البالِغِ المُكلَّف في العُمر مرةً واحدةً، وما زادَ على ذلك فهو تطوُّعٌ. فمَن كتبَ اللهُ له الحجَّ، ووفَّقَه لأدائِه فرضًا كان أو تطوُّعًا، وقامَ بأعمالِه كاملةً؛ فقد منَّ الله عليه بالنعمة العظيمة، والمنزِلَة الرفيعة، والمغفِرَة الواسِعة، والأجورِ المُتنوِّعة.
وحُقَّ لمَن تفضَّل الله عليه بالحجِّ أن يفرَحَ به أشدَّ الفرَح، قال الله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].
إذ قد نالَ فضائلَ الحجِّ التي جاء بها القرآنُ الكريمُ والحديثُ النبويُّ: قال الله -تعالى- في عملِ شعائِرِ الحجِّ: (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج: 37].
وقال - سبحانه - في العملِ الصالِح في الحجِّ: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) [البقرة: 197] أي: فيُجازِيكُم به.
وقال -تعالى- فيمَن تقبَّل الله منه: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) البقرة
وفي الحديثِ: "العُمرةُ إلى العُمرةِ كفَّارةٌ لما بينَهما، والحجُّ المبرُورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنَّة» متفق عليه.
وقال - عليه الصلاة والسلام -: "مَن حجَّ لله فلم يرفُث ولم يفسُق؛ رجعَ كيوم ولدَتْه أمُّه» متفق عليه.
والحُجَّاجُ والعُمَّارُ وفدُ الله، والربُّ - عزَّ وجل - أكرمُ الأكرمين.
****************
أيها الإخوة الكرام... نحن مُقْبِلون على عشرة أيام، هي من أفضل أيام العمر، إنها الأيام العشرة مِن ذي الحجة، والنبي عليه الصلاة والسلام شهد لها ؛ بأنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، وحثَّ فيها على العمل الصالح، وعلى بعض العبادات، بل إن الله تعالى في بعض التفاسير أقسم بها: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)﴾ الفجر
وهذا القسم وحده يكفي أن تكون هذه الأيام مِن أفضل أيام الدنيا في حياة المسلم، إذ أن العظيم لا يُقْسِمُ إلا بعظيم..
كلام النبي عليه الصلاة والسلام وحيٌ غير متلو، وهو يقول:
(( أفضل أيام الدنيا أيام العشر ـ أي عشر من ذي الحجة ـ قيل: ولا مثلهن في سبيل الله ؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجلٌ عفَّر وجهه بالتراب )) ( مجمع الزوائد: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد أحد كتب الحديث، جمع فيه الحافظ الهيثمي زوائد: مسند أحمد، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى الموصلي، ومعاجم الطبراني الثلاثة.)
عفَّر وجهه بالتراب : أي استشهد، وبذل روحه ونفسه في سبيل الله،
معنى ذلك الحُجَّاج في بؤرة النفحات الإلهية، أما غير الحجاج يحومون حول هذه البؤرة..
هذا يستدعي مِن المسلم أن يجتهد في هذه الأيام العَشْر، وأن يكثر من الأعمال الصالحة، وأن يحسن استقبالها واغتنامها،
العلماء قالوا: بأي شيءٍ تستقبل هذه الأيام العشر؟ تستقبل أولاً بالتوبة الصادقة والمؤمن كثير التوبة مع كل مَوْسم، في كل مناسبة، في مَطْلَع أي عبادة، في قرب مجيء أي موسم يبدأ بالتوبة الصادقة، لقوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾ التحريم
وفي آيةٍ أخرى:
﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ النور
وكما تعلمون التوبة ؛ علمٌ وحالٌ وعمل، فكلما ازداد علمك ازدادت معرفتك بالذنوب كلما ازدادت معرفتك بالذنوب اشتدَّت حالات الألم لما بدر مِن ذنب، العلم بالذنب والندم عليه يستدعيان الإقلاع عنه فوراً، والعزيمة على ألا تقع به مستقبلاً، وأن تُصَحِّح ما بدر منك في الماضي، إقلاعٌ، وعزيمةٌ، وإصلاح، وندمٌ، وعلم.
إذا جاء الأمر للمجتهد أن اجتهد، أي اثبت على اجتهادك. إذا دعا النبي عليه الصلاة والسلام، أو إذا أُمر النبي عليه الصلاة والسلام:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ الأحزاب
هل معنى ذلك أنه ليس متقياً لله ؟ لا، هو متقٍ لله، فإذا الأمر للمتقي أن اتقِ، أي استمر واثبت على تقواك.
أيها الإخوة... العلماء قالوا: كما أن الطاعات أسباب القُرب من الله تعالى، كذلك المعاصي أسباب البُعد عن الله تعالى، فبالنهاية ؛ طاعةٌ تقرب، ومعصيةٌ تبعد، عملٌ تقبل به وعملٌ تعرض به، عملٌ يوصلك بالله، وعملٌ يقطعك عن الله، وفي النهاية المؤمن الصادق يتحرَّى كل عملٍ يوصله بالله، ويبتعدُ عن كل عملٍ يقطعه عن الله، الإنسان قد يُحرمَ رحمة الله عزَّ وجل بسبب ذنبٍ ارتكبه، فكل من أراد لقاء الله فعليه بالطاعة والعمل الصالح، والآية الكريمة:
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)﴾ الكهف
إذاً نستقبل هذه الأيام العشر بالتوبة، وهناك سؤال: ما برنامج العبادات الذي ينبغي أن يكون مُطَبَّقاً على مدار العام ؟ لابدَّ مِن صلاة الفجر في وقتها، ولابدَّ من تلاوة بعض القرآن ولابدَّ من التفكُّر في خَلق السماوات والأرض، ولابدَّ من الدعاء، ذكرٌ ودعاء، وتفكرٌ وتلاوةٌ وصلاة..
مما يشير إلى فضل هذه الأيام العشر، أن فيها يومَ عرفة، يومَ الحجِّ الأكبر، يوم مغفرة الذنوب، يوم العتق مِن النار، ولو لم يكن في العشر من ذي الحجة إلا يوم عرفة لكافاها ذلك فضلاً، من هذه الأيام يوم عرفة.
وقال بعض العلماء، وهو الحافظ بن حجر في ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري ـ: أن سبب امتياز هذه الأيام أن فيها اجتماع أمهات العبادات ؛ فيها الصلاة والصيام، والصدقة، والحج، ولا يتأتّى ذلك في غير هذه الأيام. الحج في هذه الأيام والصلاة والصيام في هذه الأيام، والصدقة.
أيها الإخوة... أنتم مُقْدِمون على عشرة أيام، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن عباسٍ رضي الله عنهما وأخرجه البخاري، قال: قال عليه الصلاة والسلام:
(( ما مِن أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله تعالى من هذه الأيام. قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله ـ هذا كلام النبي ـ إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء )) أي بذل حياته في سبيل الله.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire