بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ثم
الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي
ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله.
وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أنَّ سيدنا
محمداً صلى الله عليه وسلَّم، رسول الله سيِّد الخلق والبشر،
اللهمَّ صلِ وسلم
وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم
الدين.
[[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) ۞ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ
عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ]] الأنفال
الحديث عن الهجرة شيء والهجرة شيءٌ آخر. الحديث عن الهجرة ربما كان مُمْتعاً، ولكن أن تُقْتَلَع من جذورك، وأن تذهب
إلى بلدٍ بعيد ليس فيها لك أرض، وليس فيها لك منزل، وليس فيها لك انصار، إن ممارسة
الهجرة شيءٌ آخر غير الحديث عن الهجرة وعن وقائعها.
سيدنا إبراهيم ـ على سبيل المثال ـ حينما أُمِرَ
أن يذبح ابنه، أن تقرأ أنت الآيات، وأن تترنَّم بها،
وأن تُشيد بهذا النبي الكريم، وهذه التضحية الكبيرة هذا شيء، وأن تعاني أمراً إلهياً
ينصبُّ على ذبح ابنك شيءٌ آخر.
لذلك
والهجرة كذلك، أن تتحدث عن الهجرة، وعن فضل النبي عليه الصلاة والسلام، وعن إيثاره، وعن جهاده، وعن تحمُّله هذا شيء،
ولكن معاناة الهجرة شيءٌ آخر، لقول الله عزَّ وجل:
﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ
إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾سورة النساء: من آية
" 66 "
أيّها الإخوة،
...إلى ماذا دعاهم الرسول صلى الله عليه و
سلّم، حتى يخرجوه و يمكروا به؟
دعاهم إلى عبادة الله عزَّ وجل... ماذا فعل حتى يأتمروا
على قتله، حتى يخرجوه من دياره، حتى ينكِّلوا بأصحابه ؟ ما الذي فعله ؟ ألم يقل سيدنا
جعفر رضي الله عنه للنجاشي حينما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلَّم، قال:
(( أيها الملِك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام،
ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونسيءُ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله
فينا رجلاً نعرف أمانته، وصدقه، وعفافه، دعانا
إلى الله لنعبده ونوحده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق
الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسن الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء ))
هذا السؤال الكبير:
لماذا العِداء ؟ لماذا هَبَّ زعماء قريش يحاربون النبي عليه الصلاة والسلام ؟ لماذا
ائتمروا على قتله ؟ لماذا كادوا له ؟ لماذا أخرجوه ؟ لماذا نَكَّلوا بأصحابه ؟
الجواب أيها الإخوة: إنها معركةٌ
أزليةٌ أبدية، إنها معركة الحق مع الباطل، هكذا الحق، وهكذا الباطل، دائماً الباطل
يريد أن يطفئ الحَق، الباطل يريد أن يقهر الحق، إنها معركةٌ أزليةٌ أبدية معركة الحق
بالباطل.
[[ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ]]
**
سؤالٌ
آخر: لماذا لم يخلق الله النبي وأصحابه في أرضٍ ليس فيها كفارٌ
إطلاقاً، فاستراحوا من المعارضة، والكَيد، والتنكيل، والإخراج وما إلى ذلك ؟
الجواب
عن هذا السؤال: إنه الابتلاء، إن سرَّ وجودك في هذه الأرض أنك
مُبْتَلى..
[[الَّذِي
خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً]]
[[
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ
(2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ]] العنكبوت
إنك آمنت بالله،
كيف ترقى إلى الله ؟ لا ترقى إلى الله إلا بالصَبر، إلا بالمجاهدة، إلا بتحمُّل الأذى،
إلا ببذل الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، إن هذه الصعوبات التي تنشأ هي ثمن الجنة
الأبديَّة، هو ثمن العطاء، هو ثمن القُرب من الله عزَّ وجل.
أيها الإخوة
الكرام... حينما حاصر كُفار قريش، ومعهم الأحزاب جميعاً المدينة المنورة، وأرادوا أن
يستأصلوا المسلمين، ليست معركةً تنتهي بنصرٍ وهزيمة، إنها معركة استئصال، معركة
إبادة، أراد الأحزاب، وأرادت قُريش، وأراد اليهود الذين جاوروا النبي عليه الصلاة والسلام
أن يستأصلوا شأفة هذا الدين عن آخره..
﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ
بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً
شَدِيداً﴾( سورة الأحزاب )
إنه الابتلاء،
[[مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ
وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ]] الأحزاب
نُعَيْم بن مسعود
رضي الله عنه، كان قد أتى مع الأحزاب ليقاتل النبي
عليه الصلاة والسلام، وقد أوتي هذا الصحابيُّ عقلاً راجحاً، ففي ذات ليلةٍ من
ليالي الحصار ـ حصار الكفار للمسلمين ـ الذي دام قريباً من عشرين يوماً، لجأ
النبي عليه الصلاة والسلام إلى الله جلَّ جلاله، وجعل يدعوه دعاءَ المُضَّطر ويكرِّر
في دعائه:
(( اللهمَّ إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهمَّ إني
أنشدك عهدك ووعدك ))( من مختصر تفسير ابن كثير: عن " ابن عباس
" )
ونُعَيْم
بن مسعود في تلك الليلة كان يتقلَّب على مهاده أرقاً، كأنما
سمِّر جفناه، فما ينطبقان لنوم، فجعل يسرَح ببصره وراء النجوم السابحة على صفحة السماء
الصافية، ويخاطب نفسه ويقول:
. " ويحك يا نعيم.. ما الذي جاء بك من تلك
الأماكن البعيدة في نجدٍ لحرب هذا الرجل ومن معه ؟ إنك يا نُعَيم لا تحاربه انتصاراً
لحقٍ مسلوب، أو حَمِيَّةً لعِرْضٍ مَغْصوب، وإنما جئت تحاربه لغير سببٍ معروف ؟
".
أيها الإخوة بعض الناس يتحرَّكون بلا سببٍ واضح، وبلا هدفٍ
واضح، لماذا تُعادي ؟ لا يعرف...
<<...أيليق
برجلٍ له عقلٌ مثل عقلك أن يقاتل فيقتل أو يقتل لغير سبب ؟ ويحك يا نعيم ! ما الذي
يجعلك تُشهر سيفك في وجه هذا الرجل الصالح ؛ الذي يأمر أتباعه بالعدل والإحسان، وإيتاء
ذي القُربى ؟ ما الذي يحملك يا نعيم على أن
تغمس روحك في دماء أصحابه الذين اتبعوا ما جاءهم به من الهدى والحق ؟>>.
...و أخذ قراره:
تسلَّل نعيم بن مسعود
مِن معسكر قومه، تحت جُنح الظلام، ومضى يحث الخُطى إلى النبي عليه الصلاة والسلام،
فلما رآه النبي ماثلاً بين يديه قال:
ـ
" نعيم بن مسعود ؟ "
ـ قال: نعم يا رسول
الله.
ـ قال:
" ما الذي جاء بك في هذه الساعة ؟ "
ـ قال:
جئت لأشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبد الله ورسوله، وأن ما جئت به حق.
والقصَّة لها تتمةٌ
طويلة، وقد أجرى الله النصر في هذه المعركة المصيرية على يَدِ هذا الصحابيّ الجليل،
بحكمته، وحِنْكَتِهِ، ودهائه وكيف أنه وظَّف عقله في خدمة المُسلمين.
** تُعلمنا الهجرة
أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيِّد الخلق وحبيب الحق،
هو الذي وعده الله بالنصر، ما من رجلٍ على وجه الأرض أجْدَرُ بالنصر من رسول الله صلى
الله عليه وسلَّم، ومع كل ذلك ؛ مع أنه نبي، ومع أنه موعودٌ بالنصر، ومع أن الله معه،
ومع كل ذلك أخذ بكل الأسباب، وما توكَّل على الله إلا بعد أن أخذ بالأسباب.
أيها الإخوة: إنّ باب الهجرة الذي كان مفتوحاً في عهد
النبي بين مكة والمدينة، أُغلِقَ بعد الفَتْح، فقد قال عليه الصلاة والسلام:((
لا هجرة بعد الفتح )) من الجامع لأحكام القرآن
ولكن باب الهجرة
.. حقيقة الهجرة هي هجرة المعصية إلى الطاعة.
لذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه في الحديث
القدسي:
(( العبادةٌ في الهرج كهجرةٍ إليّ )) رواه مسلم و
غيره.
قال النووي في شرح مسلم:
المراد بالهرج
هنا الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون
عنها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد.
الدعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء
اللهمّ إنّي أسألك في صلات ودعائي بركةً تطهّر بها قلبي،
وتكشف بها كربي، وتغفر بها ذنبي، وتصلح بها أمري، وتُغني بها فقري، وتذهب بها شرّي،
وتكشف بها همّي وغمّي، وتشفي بها سقمي، وتقضي بها ديني، وتجلو بها حزني، وتجمع بها
شملي، وتبيّض بها وجهي يا أرحم الرّاحمين. اللهمّ إليك مدّت يدي، وفيها عندك عظمت رغبتي،
فاقبل توبتي، وارحم ضعف قوّتي، واغفر خطيئتي، واقبل معذرتي، واجعل لي من كلّ خيرٍ نصيباً
وإلى كلّ خيرٍ سبيلاً. اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا هادي لمن
أضللت، ولا باسط لما قبضت، ولا مؤخّر لما قدّمت، ولا مقدّم لما أخّرت. اللهمّ أنت الحليم
فلا تعجل، وأنت الجواد فلا تبخل، وأنت العزيز فلا تذل، وأنت المجير فلا تضام، وأنت
المنيع فلا ترام، وأنت على كلّ شيءٍ قدير. اللهمّ لا تحرمني سعة رحمتك، وسبوغ نعمتك،
وشمول عافيتك، وجزيل عطائك، ولا تجازني بقبيح عملي، ولا تصرف وجهك الكريم عنّي برحمتك
يا أرحم الرّاحمين . اللهمّ لا تحرمني وأنا أدعوك، ولا تخيّبني وأنا أرجوك. اللهمّ
إنّي أسألك يا فارج الهمّ ويا كاشف الغم، يا مجيب دعوة المضطرّين، يا رحمن الدّنيا
ويا رحيم الآخرة، ارحمني برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire