الأمانة -12/2024
بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم
الحمد لله ، ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا ، و ما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن سيدنا محمدا صلَّى الله عليه وسلم رسولُ الله ، سِّيدُ الخلق والبشر، أدى ..و بلغ ..و نصح..
اللهم صلِّ ، وسلِّم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذرِّيته ، ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهمَّ ارحمنا ، فإنك بنا راحم ، و لا تعذِّبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير إنك على كل شيء قدير ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقا ، وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا ، و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
*******************************
أيها الأخوة
سِمة أساسية من سمات المؤمن حبُّ الحق وإيثاره ، و يتفرَّع عن هذا السمة الأساسية الصدقُ و الوفاء بالوعد ، وإنفاذ العهد ، والأمانة ، وهي موضوع اليوم .
الأمانة خلقٌ ثابت من أخلاق المؤمن ، بل هي مؤشِّر على إيمانه ،
بل إن الأمانة والإيمان شيئان متلازمان ، فإذا فُقد الأول فقِد الآخر .
روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ:
((لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ))
أيها الأخوة الأكارم ؛
الأمانة أن تعُفَّ النفس عما ليس من حق :
قد يؤدِّي الإنسانُ ما عليه من حقوق ، و في تعريف الأمانة الدقيق ليس هذا من الأمانة ،
إذا كان عليك حقٌّ ثابت موثَّق بوثائق و لم تؤدِّه هُدِرت سمعتُك ، وانتُقِصت من كرامتك ، فأداء هذا الحق ليس من خلق الأمانة ،
ولكن تعريف علماء الأخلاق للأمانة هو ما يلي: الأمانة خلقٌ ثابت في النفس يَعُفُّ بها الإنسان عما ليس من حقه ، أن تعُفَّ النفس عما ليس من حقك ، وإن تهيَّأت ظروفُ دون أن تكون عرضةً للإدانة عند الناس ، دون أن تُمسَّ بكلمة ، دون أن يكتشف أحدٌ ذلك ، من دون أن تمس سمعتك ،
إذا تهيِّأت لك الظروف أن تأخذ ما ليس لك و سمعتك مصونة و مكانتك مصونة ، إذا عففت عن هذا الحق فأنت أمين ،
إذا عففت عن أموال الناس و عن أعراضهم و عن حقوقهم الأدبية دون أن تكون مُدانا عند الناس فأنت أمين..
أما إذا كان عليك حق ثابت مثبَّت بأصول ووثائق ، بأدلة ..هذا موضوع آخر لا علاقة له بالأمانة ،
مثال: لو أن إنسانا أَوْدع عندك مالا دون أن يأخذ وثيقة و دون أن يُعلِم أولاده بهذا المال و توفِّي فجأةً ، و لا يستطيع أحدٌ في الأرض أن يطالبك بهذا المال ، و لا أن يكتشف ما فعلت ، فإذا ذهبت إلى الورثة و أدَّيت هذا المال ، فأنت و ربِّ الكعبة أمين ،
أما إذا كان هناك إيصال ووثائق و هناك سندات أو هناك من يعلم ، و جاءوا و طالبوك ، إذا أدَّيت الحقوق فهذا خلق مدني..
في سورة النساء قول الله عزّ و جلّ:﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾
أيها الإخوة،
الأمانة كلٌّ لا يتجزَّأ :
مثل آخر ، أن حينما تُلْقَ يدُك بالإنفاق في موضوع ما و أنت مُصدَّق ، فإذا زدتَ المبالغ لا أحد يكتشف هذه الزيادة ، فإذا أخذت وثائق من الباعة بسعر مرتفع لا أحد يكشف ذلك ، إذا تعفَّفت عن هذا المال الذي تأكله من دون أن يدريَ أحد من خلق الله فأنت ربِّ الكعبة أمين ،
لكنَّ الأمانةَ، أيُّها الإخوةُ، وَحدةٌ لا تتجزَّأ، من السُّخفِ ومن الضَّلالِ أن تقول: فلانٌ من حيثُ الأموالِ أمينٌ جدًّا، لكنَّ من حيثُ الأعراضِ نفسُهُ خضراءُ.
مثال:
** كذلك هذا الذي يمكنه أن يطَّلع على عورات الناس والجيران دون أن يتفطَّن له أحد..، فإذا امتنع عن ذلك وكفَّ بصره عنهم، فهو أمين.**..
**الكاميرات أصبحت رخيصة، ويمكن وضعها في أي مكان دون أن يتفطَّن إليها أحد.**
الأمانة كلٌّ لا يتجزَّأ ، يجب أن تكون أمينا على أموال الناس ، و يجب أن تكون أمينا على أعراضهم و يجب أن تكون أمينا على حقوقهم الأدبية ،
الأمانة وحدةٌ لا تتجزَّأ ، ضلَّ من ظن أن الأمانة تتعلَّق بالأموال ،
إذا سمعت حديثا و نقلته مع الزيادة فلستَ أمينا ، إذا حذفت منه فلست أمينا ،
فإن حذفت منه للإصلاح بين الناس هذا خلق طيَّب ، أما إن حذفت منه لمصلحة لك شخصية فلم تؤدِّ هذه الأمانة ..
أيها الأخوة الأكارم ، إن لم تنصح المسلمين فأنت لست أميناً :
حينما تقول كلامًا خلاف الواقع ، فلست أمينا ، إذا وصفتَ بضاعة وصفا مخالفا لحقيقتها بغية ترويجها فلست أمينا ، إذا أكلت أموالا تتوهَّم أن لا صاحب لها فلست أمينا ، إن لم تُبلِّغ الرسائل الخطِّية والشفهية تبليغا صحيحا دقيقا فلست أمينا ، إن لم تنصح المسلمين فلست أمينا على دينهم ولا على دنياهم ،
يكفي أن يأتيك إنسانٌ إلى محلِّك التجاري ، ويقول لك: انصحني ، فإذا وجَّهته إلى بضاعة كاسدة فلست أمينا ، لو أنه قال لك: انصحني في اللون ، ووجَّهته إلى لون كاسد عندك فلست أمينا ..
أمانة المال و الأعراض و النقل ..وهناك أيضا: الغُلول ، وأمانة الإبلاغ ، وأمانة التبيين ، وأمانة النصيحة ، وأمانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أداء الحقوق إلى أصحابها ،
يمكن أن نستخلص من كل هذه الفروع الدقيقة أن للأمانة أبوابا ثلاثة؛
- الباب الأول أن تعفَّ عما ليس لك به حقٌّ ،
- الباب الثاني أن تؤدي ما يجب عليك ،
- هذا المريض له حق عند الطبيب ، أن يفحصه فحصا دقيقا ، أن يستقصي كلَّ الظواهر ، لأنه وثق به و أعطاه أجرته ، فالمريض أمانة في عنق الطبيب ،
والموكِّل أمانة في عنق المحامي ، لا بد من أن يُطالع القوانين ، لا بد من أن يُطالع ما استجدَّ من اجتهادات فقهية ، لا بد من أن يُعدَّ مذكّرة قوية ، لا بد من أن يؤدِّي ما عليه من حقوق كي يأخذ الأجر حلالا ..
لذلك قال عليه الصلاة و السلام: (( غبن المسترسل ربا ، غبن المسترسل حرام ))
- **الغبن**: هو الخداع أو إلحاق الضرر بالآخر في البيع أو الشراء، عن طريق استغلال جهله أو عدم معرفته بالقيمة الحقيقية للسلعة.
- **المسترسل**: هو الشخص الذي ليس لديه خبرة أو معرفة في البيع والشراء، أو الذي يثق بالبائع بشكل كامل دون أن يفحص أو يساوم.
***********************
الأمانة أن تحفظ ما استُؤمِنت عليه :
أيها الأخوة الأكارم ، وباب ثالث من أبواب الأمانة ، وهي أن تحفظ ما استُؤمِنت عليه ، من دون أن تتلفه ، من دون أن تستهلكه ، من دون أن تنتفع به ، من دون أن تهمله ، من دون أن تحفظه في حرز لا تحفظ فيه أموالك .
أيها الأخوة الأكارم؛ لأن الأمانة متعدِّدة ، ولأنها واسعة وسعت فروع الحياة جاءت الآية الكريمة في قوله تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا النساء
جاءت بلفظ الجمع ، ليس في عنقك أمانة واحدة ، والداك أمانة ، أولادك أمانة ، طلابك وأنت تدرِّسهم أمانة ، مرضاك وأنت طبيب أمانة ، المشترون وأنت بائع أمانة ، المراجعون وأنت موظَّف أمانة ..
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ:
((لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ)) أحمد
إساءة الأمانة تعني الخيانة :
وأما الخيانة أيها الأخوة ، فهي علامةٌ قطعية من علامات النفاق ، ففي صحيح مسلم حديثٌ شريف ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِ ثَلَاثَةٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ))[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
أيها الأخوة ، في الفقرة الأخيرة من الحديث ، منافق منافق منافق ، وإن صلى وصام ، وزعم أنه مسلم ، وإن تظاهر بكل مظاهر الإسلام ، إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان فليس مسلما ، بل هو منافق بنص هذا الحديث الشريف .
**************************
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، و بارك اللهم لنا فيما أعطيت ، و قنا و اصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ، ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا و تعاليت ، و لك الحمد على ما قضيت ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، و أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، و أصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، و اجعل الحياة زادا لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، و بطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ، و آمنا في أوطاننا ، و اجعل هذا البلد آمنا سخيا رخيا ، و سائر بلاد المسلمين ، اللهم يا أكرم الأكرمين أعطنا ولا تحرمنا وأكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرَّ خلقك ، ونُبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم وليُّ العطاء ، و بيدك وحدك خزائن الأرض و السماء ، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم أقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ، ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام ، وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .
يا أيها الأخوة الأكارم ، حينما وفد وفدُ النبي عليه الصلاة و السلام على النجاشي وطلب منهم أن يحدِّثوه عن هذا الدين الجديد الذي جاء به النبي الكريم ماذا قال سيدنا جعفر؟ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:
((لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ قَالَتْ فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ -وصَفَ النبيَّ بثلاث صفات أو أربع صفات -نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ))
[أحمد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ]
إن لم تكن أمينا فلن يستمع الناس إليك ، ولن يصدِّقوك ، ولن يعبؤوا بكل أقوالك الدقيقة مهما حفظت من نصوص ، ومهما جئتَ بعلم دقيق ، لن يحفل الناسُ بكلامك إذا لم تكن أمينا .
الأمانةُ شرطٌ أساسي من شروط اصطفاء الرسل :
أيها الأخوة الأكارم ؛ نعرف أمانته ، وصدقه ، ونسبه ، وعفافه ، لذلك قال علماءُ التوحيد: الأمانةُ شرطٌ أساسي من شروط اصطفاء الرسل ، بل هي صفة أساسية في الأنبياء والمرسلين ، قال تعالى:
﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾
[سورة الأعراف: 68]
من صفات سيدنا هود أنه ناصح أمين ، النبي عليه الصلاة والسلام كان اسمُه الأمين ، كان يُلقَّب بالأمين قبل الرسالة ، سيدنا جبريل وصفه الله عز وجل بأنه الروح الأمين، قال تعالى:
﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾
[سورة الشعراء: 193]
من ثمرات الأمانةُ الثقة :
أيها الأخوة ؛ الأمانة من ثمراتها الثقة ، و أثمن شيء تملكه أن يثق الناسُ بك ، أن يثق الناسُ بأقوالك ،أنْ يثق الناس بأمانتك و بصدقك ،ومن ملَك ثقةَ الناس ملك كلَّ شيء ، ومن فقَد ثقة الناس فقد كل شيء ، من ولازم الأمانة الثقة ، حتى إن النبي عليه الصلاة و السلام عرَّف الأمانة بأنها غنى ، من كان أمينا أقبل الناسُ عليه ، في أيَّة حرفة من الحرف ، من كان أمينا في أقواله في بضاعته في أوصافه في حركاته في تنقُّلاته ، من كان أمينا في بيعه و شراءه أقبل الناسُ عليه وازداد ربحُه ، لذلك عرَّف النبي الكريم الأمانة بأنها غنى ، و المقصود بالغنى الغنى المادي ،
((من أراد أن يكون في بحبوحة العيش فليكن أمينا ،))
من أراد أن يكون في بحبوحة العيش فليكن أمينا في كل أقواله .
مجالات الأمانة واسعةٌ جداً :
أيها الأخوة الأكارم ، مجالات الأمانة واسعةٌ جدا ، الأموال و البيوع و الديون و المواريث ، هذا الذي يلعب بالميراث ليس أمينا ، الودائع و الرهون و العواري ، شيء تستعيره ، الوصايا ، الولايات الكبرى ، سيدنا عمر سأل أحد الولاة قال: (ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب؟ قال: أقطعُ يده ، قال: إذًا فإن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك) ، هذا باب كبير باب الأموال ، يدخل فيه البيوع و المواريث والودائع ، والرهون ، والعواري ، والوصايا ، حتى الولايات الكبرى ، والأعراض ، كفُّ النفس ، واللسان عن أعراض الناس ، كف النفس بالنظر ، واللسان بالقذف ، يجب أن تكفَّ لسانَك عن أن تخوض في أعراض الناس لذلك كانت الغيبةُ محرَّمة ، وكلمة أعراض لا تعني النساء فقط، عرضُ الرجل موطنُ المدح والذم فيه ، هذا عرض الرجل ، فإذا كففت لسانك عن أعراض الناس فأنت أمين ، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾
[سورة الحجرات: 6]
قال تعالى:
﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾
[سورة الإسراء: 36]
القضاء والكتابة والأسرار أمانة :
فالأعراض أيها الأخوة ، كفُّ النفس عن نظرة لا تجوز لك ، وكفُّ اللسان عن قذف ، أو عن فُحش ، أو عن شيء من هذا القبيل ، و يدخل في باب الأمانة الأجساد والأرواح ، الإنسان بنيانُ الله ، وملعون من هدّم بنيانَ الله ، كم من خطأ أساسه الإهمال أودى بحياة إنسان ، كم من عامل أهمل إحكامَ هذه الآلة فأودت بأصحابها في الطريق ، هذا من قبيل الأمانة ، قد تعتدي على أموال الناس وقد تعتدي على أعراضهم و قد تعتدي على أجسامهم ، إذا أهملتَ صنعتك ، لم تُحكِم المكبح ، ولم تضبط الأمر بيدك يا صاحب المحل ، تركته لصانع صغير لم يحكم هذه الآلة ، وفي الطريق انفرط عقدُها فمات الركابُ جميعا ، هذا في رقبتك ، إصلاح هذه الأمانة سائقُ السيارة ركَّابه أمانة ، ثم أمانة المعارف والعلوم ، هذا الذي ينتحل النصوص ، ويسرق من الكتب ، ويدَّعيها لنفسه ، ويقول: أنا ألَّفت كذا ، هذا ليس أمينا، و الشهادةُ أمانة .
أيها الأخوة ، و القضاء أمانة ، والكتابة أمانة ، والأسرار التي يأتمنك الناسُ عليها أمانة ، والرسالات أمانة ، من أضاف شيئا ، وحذف شيا ، وحواسُك أمانة ، وللأمانة بحث طويل تتمركز في معظمها حول قوله تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ﴾
[ سورة الأحزاب: 72 ]
أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، و زنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتَّخذ حذرنا ، الكيَّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، و الحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، و أشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين ، و أشهد أن سيدنا محمدا عبده و رسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ و سلم و بارك على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين .
أشدَّ الأمانات ثقلاً هي نفسُك :
أيها الأخوة الأكارم ؛ لعلَّكم تتوقَّعون أن أخطر أمانة تحملها ، وأن أعظم أمانة منوطة بك ، وأن أشدَّ الأمانات ثقلا هي نفسُك التي بين جنبيك ، نفسُك أمانة بيدك ، لذلك قال الله عز وجل :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
[ سورة الشمس: 9-10]
أنت في الدنيا بيدك أمانة ثمينة جدا ، إن زكَّيتها أسعدتك إلى الأبد ، و إن دسَّيتها، وأفسدتها أشقتك إلى الأبد ، إن أخطر أمانة لا هذا الذي يقف على محلِّك التجاري ، ولا هذا المريض في عيادتك و لا هذا الموكِّل في مكتبك ، إن أخطر أمانة نفسُك التي تسعد إن سعِدت، وتشقى إن شقيت ، نفسُك التي هي خالدة إلى الأبد ، إما في جنة يدوم نعيمُها ، وإما في نار لا ينفذ عذابُها ، لذلك هذا موضوع الخطبة القادمة ، موضوع الخطبة القادم أساسه قوله تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ﴾
[ سورة الأحزاب: 72 ]
كل الكون مسخَّر لك ، أعطاك اللهُ كونا ناطقا بوجوده ، وكماله ووحدانيته أعطاك عقلا ذا مكانات لا حدود لها من أجل أن تعرف الله ، أعطاك فطرةً سليمة ، إياك أن تشوِّهها، أعطاك الاختيار ، أعطاك الشهوات لترقى بها إلى ربِّ الأرض و السماوات ، قال تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ﴾
[ سورة الأحزاب: 72 ]
إنها أمانة التكليف ، إنها نفسك التي بين جنبيك أوكلك اللهُ إياها ، لك أن تجعلها تؤمن ، ولك أن تجعلها تكفر ، لك أن تجعلها أمينة ، ولك أن تجعلها خائنة ، لك أن تجعلها مستقيمة ، ولك أن تجعلها منحرفة .
أمانة التكليف في مقدِّمة الأمانات كلها :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ من عرف نفسَه عرف ربَّه ، أخطر شيء في الحياة أنم تعرف من أنت ، أنت المخلوق الأول ، أنت المخلوق المكرَّم أنت المخلوق الذي سخَّر الله لك الكون من أجلك ، أنت المخلوق الذي وُجِدت في دنيا محدودة من أجل أن تعِدَّ العدة لآخرة ممدودة ، أنت المخلوق الذي قبِل حملَ الأمانة فكرَّمه الله أعظمَ تكريم ، وخلقه في أحسن تقويم و سخَّر له ما قفي السماوات ، موضوع الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى أمانة التكليف، الأمانة الأولى ، هناك أمانة التكليف ، و هناك أمانة التبليغ ، وأمانة التبيين ، وأمانة الواجبات، وأمانة الحقوق ، وفي مقدِّمة هذه الأمانات كلها أمانة التكليف .
لن تُفتح لك أبوابُ السماء ، ولن يرضى الله عنك ، لن يسمح الله لك أن تتَّصل به ، ولن يتجلَّى على قلبك إلا إذا كنت مستقيما في معاملة الخلق ، إن الاستقامة في معاملة الناس هي جوهر الدين ، وسوف ترون بعد قليل كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام يؤكِّد أن حقيقة الدين أداءُ الأمانة .
أيها الأخوة الأكارم؛
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire